تعلو بين فينةٍ وأخرى أصوات تزعم أن استيراد الدواجن بدون جمارك وتوفيرها في منافذ وزارة التموين حلٌ سحريٌ لمشاكل المستهلك المصري، ولا أعرف منطقا اقتصاديا يستقيم مع هذا الكلام، فالدول لا تتعامل مع القطاعات الإنتاجية الوطنية بمنهج ربة المنزل، والتي تذهب للسوق البعيد لأن الأسعار فيه أقل منها في السوق القريب، وإنما تفضل الحكومات شراء المنتج الوطني – طالما كان متاحاً – على استيراده من الخارج حتى لو كان المنتج المستورد أرخص ثمنا، وهذا “يصدق على أمريكا الرأسمالية كما يصدق على الصين الشيوعية” كما يقول الاقتصادي “براشي جونيجا”، في مقاله المنشور بمجلة الدراسات الإدارية . ولعل الشعار الذي رفعه ترامب في حملته الانتخابية اشتري المنتج الأمريكي، وظف المواطن الأمريكي” ليس منا ببعيد! في مقاله، يوضح جونيجا ثلاثة مزايا لشراء الحكومات منتجاً وطنياً (بمنظور قومي وليس بمنظور المنتجين):
1- تكلفة خلق وظائف عمل جديدة، أو فقد فرص عمل قائمة، ولو طبقنا هذا على واقعنا، فوفقا للهيئة العامة للتنمية الصناعية في مصر تبلغ تكلفة خلق فرصة عمل واحدة في قطاع الإنتاج الزراعي والحيواني 109 ألف جنيهًا ، وصناعة الدواجن المصرية وفقا لأرقام وزارة الزراعة يعمل بها 2.5 مليون عامل، وعليه، تكون تكلفة خلق وظائف مكافئة في القطاع الزراعي والحيواني والداجني وفقا لهيئة التنمية الصناعية 273 مليار جنيه مصري، فعندما ينصح أحدهم الدولة بالسماح بإغراق السوق وتدمير صناعة مليونيه العمالة، عليه أن ينصحها بكيفية تمويل خلق فرص عمل جديدة.
2- الاعتماد على المنتج المستورد يقلل الدخل الضريبي للدولة بتطبيق قاعدة النشاط الإنتاجي داخلها، واستيراد الحكومات لا يخضع لجمارك أو رسوم حماية تعوض الفقد الضريبي، وغني عن الذكر أن مصر دولة تعتمد على الإيرادات الضريبية بنسبة 66% من إجمالي إيراداتها، وصناعة ملياريه الاستثمارات كصناعة الدواجن والصناعات الداعمة لها تعد مصدرا حيويا للحصيلة الضريبية.
3- تكلفة زيادة الخلل في الميزان التجاري للدولة! وما يستتبعه من زيادة الطلب على العملات الصعبة، ومن ثم التضخم. والعجز في الميزان التجاري المصري في 2020م كان 38.2 مليار دولار وفقا لوزارة التجارة والصناعة ، ولو حلت واردات لحوم الدواجن محل الإنتاج المحلي بالكامل لزاد هذا العجز بما قيمته 3.2 مليار دولار (8%).
قصة الطماطم الهندية، والدروس المستفادة!!
تمثل الهند المنتج الثاني للطماطم في العالم بعد الصين، ولكن تكلفة الإنتاج أعلى من الصين لأن إنتاجية الهكتار في الصين تبلغ 48 طناً، مقابل 19.5 طنا للهكتار في الهند، أما الولايات المتحدة فتصل إنتاجية الهكتار فيها إلى 81 طناً !! فكيف حافظت الدولة الهندية على هذا القطاع الإنتاجي، وبقي مسيطرا على السوق الهندية رغم وجود واردات؟ دون أن تعيره بارتفاع كلفته عن كلفة المنتج الصيني والأمريكي؟ خاصة بعد أن بدأ القطاع الخاص الهندي في استيراد الطماطم من الصين بعد اتفاقية التجارة الحرة؟
1- اعتمدت الهند على السوق الداخلي الكبير، وعلى طبيعة الطماطم الطازجة كمحصول قصير العمر لا يمكن استيراده من إيطاليا أو الولايات المتحدة. وعمدت إلى شراء الدولة من المزارعين في حالة تدني الأسعار، (تكرر هذا مرارا منذ بدأ التوتر السياسي بين الهند وباكستان، لكون الأخيرة واحدة من أكبر مستوردي الطماطم الهندية لقرب المسافة، وكانت آخر موجة شراء حكومي من المربين في يناير الماضي )، حيث تقوم الدولة بتصنيع معجون الطماطم في أوقات انخفاض السعر، لتعرض المعجون لاحقاً للاستهلاك المحلي والتصدير.
2- التركيز على تصدير الطماطم الطازجة للأسواق القريبة جغرافيا في باكستان والخليج العربي.
3- ترتيبات الشراء العكسي (Counter-Purchase)، كما حدث عندما اتفقت الحكومة الهندية في مطلع التسعينيات مع شركة بيبسي أن تشتري الأخيرة بجزء من عوائد توسعاتها في الهند (30%) معجون الطماطم الهندي لتسوقه عالمياً! لقد وصل اتفاق الهند مع شركة بيبسيكو، والتي كانت قبل 1997م تمتلك سلسلة بيزا-هت العالمية، لحجم مشترات من محصول الطماطم الهندية جعل بيبسيكو تستخدم معجون الطماطم الهندي على فطائر البيتزا على مستوى العالم!
كانت المحصلة أن الهند، رغم ارتفاع كلفة محصولها، حافظت على إنتاجها المحلي (رغم الاستيراد) ليمثل 11% من إنتاج الطماطم العالمي! فماذا كان سيحدث في سوق العمل، ومن ثم الاقتصاد الهندي، لو قررت الهند أن تقتل هذه الصناعة لأنها ليست منافسة؟ وتعتمد بالكامل على استيراد الطماطم الطازجة من الصين القريبة، ومصنعات الطماطم من إيطاليا البعيدة؟ كانت الهند عندئذٍ ستكون كمن نكثت غزلها بعد قوة! فهل يمكننا استلهام تجربة الهند في الحفاظ على الإنتاج الداجني المصري؟
اتفاقات الشراء العسكي وازدهار الإنتاج الوطني
هناك أشكال مختلفة للتبادل التجاري العكسي: منها مقايضة السلع بالسلع، ومنها الشراء العسكي، بالسماح لشركات عملاقة بالتوسع محليا مقابل تخصيص جزء من عوائدها، لا تحولها كنقد أجنبي للخارج، وتخصصها لشراء منتجات وطنية تسوقها خارجياً (مثل الاتفاق الذي عقدته الهند، وقبلها روسيا، مع بيبسي). وهناك اتفاقات الإمداد والتموين المحلي، والتي تشتري بمقتضاها المصانع الأجنبية في الدولة نسبة من مدخلات الإنتاج من السوق المحلية. وتختلف تقديرات الاقتصاديين لحجم التبادل غير النقدي بين 15% و30% من التبادل التجاري العالمي. ولمصر سابق خبرة في الشراء العكسي في اتفاق عقدته مع شركة كوكاكولا مقابل شراء حصة محددة من محصول البرتقال المصري، ولها كذلك خبرة كبيرة في اتفاقات المقايضة، حيث فتحت مصر في 2017م سوقا للعقار المصري المعالج لفيروس سي الكبدي في الأرجنتين، مقابل سلع أرجنتينية.
كم يبلغ استهلاك سلاسل المطاعم والفنادق والوجبات السريعة العالمية من لحوم الدواجن والبيض في المنطقة العربية؟ ماذا يحدث لو عزمت الدولة المصرية على عقد اتفاقات وترتيبات مع هذه الشركات العالمية، لتخصيص جزء معقول من عوائدها المحلية في السوق المصرية، لشراء منتجات الدواجن المصرية وتغذية فروعها في مصر والدول العربية بهذه المنتجات؟ خاصة فروعها في الدول غير المنتجة للدواجن؟ ربما كان هذا صعبا في ظل حظر صادرات منتجات الدواجن من مصر منذ 2006 وحتى العام الماضي، لكنه صار اليوم متاحاً! هل تجد تطبيق فكرة التبادل التجاري والشراء العكسي صعبة التطبيق في مجال الدواجن؟ إذا فإليك المفاجأة: كان لاتفاقات مقايضة فضلٌ كبير في مضاعفة صادرات الدواجن البرازيلية لدول الخليج العربي مقابل منتجات نفطية في السبعينات!
ربما كانت هذه الفكرة ممكنة وربما واجهتها مصاعب، لكن بتقديرنا أن هذا النمط من تفكير الدولة في كيفية النهوض بالإنتاج الوطني وتنميته، أو بأقل تقدير الحفاظ عليه، يقع على طرف نقيض، وعلى طرفه الآخر يقع الإيغال في استيراد لحوم الدواجن من الخارج، والمدفوع بانخفاض سعرها! في زمن كورونا، يتحدث العالم شرقا وغربا عن توطين الصناعات الحيوية، وليس منطقيا أن نتحدث نحن عن “تغريب” هذه الصناعات!
الأكثر تعليقا 1